فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا}
أي: إذا حركت حركة شديدة.
وجواب الشرط: {تحدث}، والمراد: تحركها عند قيام الساعة، فإنها تضطرب حتى يتكسر كلّ شيء عليها.
قال مجاهد: وهي النفخة الأولى لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تتبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 6، 7] وذكر المصدر للتأكيد، ثم أضافه إلى الأرض، فهو مصدر مضاف إلى فاعله، والمعنى: زلزالها المخصوص الذي يستحقه، ويقتضيه جرمها وعظمها.
قرأ الجمهور: {زلزالها} بكسر الزاي.
وقرأ الجحدري، وعيسى بفتحها، وهما مصدران بمعنى.
وقيل: المكسور مصدر، والمفتوح اسم.
قال القرطبي: والزلزال بالفتح مصدر كالوسواس، والقلقال: {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} أي: ما في جوفها من الأموات والدفائن، والأثقال جمع ثقل، قال أبو عبيدة، والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض، فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها.
قال مجاهد: أثقالها موتاها تخرجهم في النفخة الثانية.
وقد قيل: للإنس والجنّ الثقلان، وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير.
{وَقال الإنسان مَا لَهَا} أي: قال كل فرد من أفراد الإنسان ما لها زلزلت؟ لما يدهمه من أمرها، ويبهره من خطبها.
وقيل: المراد بالإنسان الكافر، وقوله: {ما لها} مبتدأ وخبر، وفيه معنى التعجيب، أي: أيّ شيء لها، أو لأيّ شيء زلزلت وأخرجت أثقالها؟ وقوله: {يَوْمَئِذٍ} بدل من (إذا)، والعامل فيهما قوله: {تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} ويجوز أن يكون العامل في إذا محذوفًا، والعامل في يومئذ تحدّث، والمعنى: يوم إذا زلزلت وأخرجت تخبر بأخبارها، وتحدّثهم بما عمل عليها من خير وشرّ، وذلك إما بلسان الحال حيث يدلّ على ذلك دلالة ظاهرة، أو بلسان المقال، بأن ينطقها الله سبحانه.
وقيل هذا متصل بقوله: {وَقال الإنسان مَا لَهَا} أي: قال ما لها {تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} متعجبًا من ذلك، وقال يحيى بن سلام: تحدّث أخبارها بما أخرجت من أثقالها.
وقيل: تحدّث بقيام الساعة، وأنها قد أتت، وأن الدنيا قد انقضت.
قال ابن جرير: تبين أخبارها بالرجفة والزلزلة، وإخراج الموتى، ومفعول تحدّث الأوّل محذوف، والثاني هو أخبارها، أي: تحدّث الخلق أخبارها.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} متعلق بـ: {تحدّث}، ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها.
وقيل: الباء زائدة، وأنّ وما في حيزها بدل من {أخبارها}، وقيل: الباء سببية، أي: بسبب إيحاء الله إليها.
قال الفرّاء: تحدّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها، واللام في {أوحى لها} بمعنى إلى وإنما أثرت على (إلى) لموافقة الفواصل، والعرب تضع لام الصفة موضع إلى. كذا قال أبو عبيدة.
وقيل: إن {أوحى} يتعدّى باللام تارة، وبإلى أخرى.
وقيل: إن اللام على بابها من كونها للعلة.
والموحى إليه محذوف، وهو الملائكة، والتقدير: أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض، أي: لأجل ما يفعلون فيها. والأوّل أولى.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} الظرف إما بدل من {يومئذ} الذي قبله، وإما منصوب بمقدّر هو (اذكر)، وإما منصوب بما بعده، والمعنى: يوم إذ يقع ما ذكر يصدر الناس من قبورهم إلى موقف الحساب أشتاتًا، أي: متفرّقين، والصدر: الرجوع وهو ضدّ الورود.
وقيل: يصدرون من موضع الحساب إلى الجنة أو النار، وانتصاب {أشتاتًا} على الحال والمعنى: أن بعضهم آمن، وبعضهم خائف، وبعضهم بلون أهل الجنة، وهو البياض، وبعضهم بلون أهل النار وهو السواد، وبعضهم ينصرف إلى جهة اليمين، وبعضهم إلى جهة الشمال، مع تفرّقهم في الأديان، واختلافهم في الأعمال.
{لّيُرَوْاْ أعمالهم} متعلق بـ: {يصدر}، وقيل: فيه تقديم وتأخير، أي: تحدّث أخبارها بأن ربك أوحى لها؛ ليروا أعمالهم {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا}.
قرأ الجمهور: {ليروا} مبنيًا للمفعول.
وهو من رؤية البصر، أي: ليريهم الله أعمالهم.
وقرأ الحسن، والأعرج، وقتادة، وحماد بن سلمة، ونصر بن عاصم، وطلحة بن مصرف على البناء للفاعل، ورويت هذه القراءة عن نافع، والمعنى: ليروا جزاء أعمالهم.
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} أي: وزن نملة.
وهي أصغر ما يكون من النمل.
قال مقاتل: فمن يعمل في الدنيا مثقال ذرّة خيرًا يره يوم القيامة في كتابه، فيفرح به.
وكذلك {الجن مَن يَعْمَلُ} في الدنيا {مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} يوم القيامة فيسوؤه.
ومثل هذه الآية قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقال ذَرَّةٍ} [النساء: 40].
وقال بعض أهل اللغة: إن الذرّة هو أن يضرب الرجل بيده على الأرض، فما علق من التراب، فهو الذرّة.
وقيل: الذرّ ما يرى في شعاع الشمس من الهباء، والأوّل أولى.
ومنه قول امرئ القيس:
من القاصرات الطرف لو دبّ محول ** من الذرّ فوق الإتب منها لأثرا

و(من) الأولى عبارة عن السعداء، و(من) الثانية عبارة عن الأشقياء.
وقال محمد بن كعب: فمن يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر يرى ثوابه في الدنيا، وفي نفسه، وماله، وأهله، وولده حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله خير، ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في ماله، ونفسه، وأهله، وولده حتى يخرج من الدنيا، وليس له عند الله شرّ، والأوّل أولى.
قال مقاتل: نزلت في رجلين كان أحدهما يأتيه السائل، فيستقلّ أن يعطيه التمرة والكسرة، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير، ويقول: إنما أوعد الله النار على الكافرين.
قرأ الجمهور: {يره} في الموضعين بضم الهاء وصلًا، وسكونها وقفًا.
وقرأ هشام بسكونها وصلًا ووقفًا.
ونقل أبو حيان عن هشام، وأبي بكر سكونها، وعن أبي عمرو ضمها مشبعة، وباقي السبعة بإشباع الأولى، وسكون الثانية، وفي هذا الثقل نظر، والصواب ما ذكرنا.
وقرأ الجمهور: {يره} مبنيًا للفاعل في الموضعين.
وقرأ ابن عباس، وابن عمر، والحسن والحسين ابنا على، وزيد بن علي، وأبو حيوة، وعاصم، والكسائي في رواية عنهما، والجحدري، والسلمي، وعيسى على البناء للمفعول فيهما، أي: يريه الله إياه.
وقرأ عكرمة: {يراه} على توهم أن من موصولة، أو على تقدير الجزم بحذف الحركة المقدّرة في الفعل.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} قال: تحرّكت من أسفلها {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} قال: الموتى.
{وَقال الإنسان مَا لَهَا} قال: الكافر يقول ما لها.
{يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} قال: قال لها ربك قولي.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} قال: أوحى لها: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتًا} قال: من كل من هاهنا، وهاهنا.
وأخرج ابن المنذر عنه {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقالهَا} قال: الكنوز والموتى.
وأخرج مسلم، والترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة، فيجيء القاتل فيقول: في هذا قتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قطعت يدي، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئًا» وأخرج أحمد، وعبد بن حميد، والترمذي وصححه، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم {يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا} قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: «فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها، تقول عمل كذا، وكذا، فهذا أخبارها» وأخرج ابن مردويه، والبيهقي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الأرض لتجيء يوم القيامة بكل عمل عمل على ظهرها» وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} حتى بلغ {يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا}.
وأخرج الطبراني عن ربيعة الخرشي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تحفظوا من الأرض فإنها أمكم، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيرًا، أو شرًّا إلاّ وهي مخبرة» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم في تاريخه، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن أنس قال: «بينما أبو بكر الصدّيق يأكل مع النبيّ إذ نزلت عليه: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}.
فرفع أبو بكر يده، وقال: يا رسول الله إني لراء ما عملت من مثقال ذرّة من شرّ.
فقال: يا أبا بكر أرأيت ما ترى في الدنيا مما تكره، فبمثاقيل ذرّ الشرّ، ويدخر لك مثاقيل ذرّ الخير حتى توفاه يوم القيامة»
.
وأخرج إسحاق بن راهويه، وعبد بن حميد، والحاكم، وابن مردويه عن أبي أسماء قال: بينا أبو بكر يتغدّى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نزلت هذه الآية: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} فأمسك أبو بكر وقال: يا رسول الله ما عملنا من شرّ رأيناه، فقال: «ما ترون مما تكرهون، فذاك مما تجزون، ويؤخر الخير لأهله في الآخرة».
وأخرج ابن أبي الدنيا، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الشعب عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أنزلت {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا}، وأبو بكر الصديق قاعد، فبكى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما يبكيك يا أبا بكر؟» قال: يبكيني هذه السورة، فقال: «لولا أنكم تخطئون وتذنبون، فيغفر لكم لخلق الله قومًا يخطئون ويذنبون، فيغفر لهم»
وأخرج البخاري، ومسلم، وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الخيل لثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر...» الحديث.
وقال: وسئل عن الحمر فقال: «ما أنزل على فيها إلاّ هذه الآية الجامعة الفاذة {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}». اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الزلزلة:
بسم الله الرحمن الرحيم
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا}
أي: أصابها ذلك الزلزال الشديد والاهتزاز الرهيب. فالإضافة للتفخيم أو الاختصاص، بمعنى الزلزال المخصوص بها، وهي الرجة التي لا غاية وراءها. والأقرب الأول لآية:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، وقرئ بفتح الزاي، وقد قيل: هما مصدران.
وقيل: المفتوح اسم والمكسور مصدر، وهو المشهور.
{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالهَا} أي: قذفت ما في باطنها من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك. لشدة الزلزلة وتشقق ظهرها. كقوله: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 3- 4]، والأثقال جمع ثقل، بفتحتين وهو متاع المسافر وكل نفيس مصون. وهذا على الاستعارة. ويجوز أن يكون بكسر فسكون بمعنى حمل البطن، على التشبيه أيضًا؛ لأن الحمل يسمى ثقلًا كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَت} [الأعراف: 189]، قاله الشريف المرتضى في (الدرر).
{وَقال الإنسان مَا لَهَا}
أي: قال مَن يكون مِن الإنسان شاهدًا لهذا الزلزال الذي فاجأه ودهشه ولم يعهد مثله: ما لهذه الأرض رجّت الرجة الهائلة، وبعثر ما فيها من الأثقال المدفونة؟!
{يَوْمَئِذٍ} بدل من إذا، أي: في ذلك الوقت {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} أي: تبين الأرض بلسان حالها، ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها. فتدل دلالة ظاهرة على ذلك، وهو الإيذان بفناء النشأة الأولى وظهور نشأة أخرى. فالتحديث استعارة أو مجاز مرسل مطلق الدلالة.
قال أبو مسلم: أي: يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله، فكأنها حدثت بذلك كقولك: الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة، فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدّث أن الدنيا قد انقضت، وأن الآخرة قد أقبلت.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} الباء سببية متعلق بـ: {تُحَدِّثُ} أي: تحدث بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. والإيحاء استعارة أو مجاز مرسل لإرادة لازمه، وهو أحداث ما تدل به على خرابها.
وقال القاشانيّ: أي: أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال، يعني الأمر التكوينيّ، وهو تعلق القدرة الإلهية بما هو أثر لها.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا} أي: ينصرفون عن مراقدهم إلى موطن حسابهم وجزائهم، متفرقين سعداء وأشقياء {لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} أي: ليريهم الله جزاء أعمالهم.
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} أي: فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير يرى ثوابه هنالك. والذرة النملة الصغيرة وهي مثل في الصغر.
وقيل: الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة.
{وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} أي: ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر، يرى جزاءه ثمة.
تنبيهات:
الأول: دل لفظ {مَن} على شمول الجزاء بقسميه للمؤمن وغيره.
قال الإمام: أي: ومن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره، فإنه يراه ويجد جزاءه، لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر. غاية الأمر أن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من عذاب الكفر، فهم به خالدون في الشقاء. والآيات التي تنطق بحبوط أعمال الكفار، وأنها لا تنفعهم، معناها هو ما ذكرنا، أي: أن عملًا من أعمالهم لا ينجيهم من عذاب الكفر، وإن خفف عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم، على بقية السيئات الأخرى، أما عذاب الكفر نفسه فلا يخفف عنهم منه شيء، كيف لا، والله جل شأنه يقول: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقال حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
فقوله: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أصرح قول في أن الكافر والمؤمن في ذلك سواء، وإن كلًا يوفى يوم القيامة جزاءه. وقد ورد أن حاتمًا يخفف عنه لكرمه، وأن أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم. وما نقله بعضهم من الإجماع على أن الكافر لا تنفعه في الآخرة حسنة ولا يخفف عنه عذاب سيئة ما، لا أصل له. فقد قال بما قلناه كثير من أئمة السلف رضي الله عنهم. على أن كلمة الإجماع، كثيرًا ما يتخذها الجهلاء السفهاء آلة لقتل روح الدِّين، وحجَرًا يلقمونه أفواه المتكلمين. وهم لا يعرفون للإجماع الذي يقوم به الحجة معنى، فبئس ما يصنعون. انتهى.
وقد سبقه الشهاب في (حواشيه) على القاضي، حيث ناقش صاحب(المقاصد) في دعواه الإجماع على إحباط عمل الكفرة. وعبارته: كيف يدعى الإجماع على الإحباط بالكلية، وهو مخالف لما صرح به في الآية؟ والذي يلوح للخاطر، بعد استكشاف سرائر الدفاتر، أن الكفار يعذبون على الكفر بحسب مراتبه. فليس عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل، ولا عذاب المعطلة كعذاب أهل الكتاب، كما تقتضيه الحكمة والعدل الإلهي. انتهى.
الثاني: قال في (الإكليل): في هاتين الآيتين الترغيب في قليل الخير وكثيره، والتحذير من قليل الشر وكثيره أخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال: هذه الآية أحكم آية في القرآن. وفي لفظ: أجمع.
وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية «الجامعة الفاذة»، حين سئل عن زكاة الحمير فقال: «ما أنزل الله فيها شيئًا إلا هذه الآية الجامعة الفاذة»:
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقال ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} إلخ.
قال: حسبي. لا أبالي أن لا أسمع غيرها. ورواه النسائي في تفسيره. اهـ.